عبد اللطيف الزكري ودور الصورة في تحقيق النمذجة الجمالية للرواية

يلاحظ الباحث المغربي عبد اللطيف الزكري أن النقد العربي الذي كُتب حول «الصورة الروائية» أقلّ بكثير مما كتب حول الصورة الشعرية. ويذهب إلى القول إنه إذا كانت «الصورة» قد دُرست في الشعر بطريقة تجزيئية، اعتمادا على مقاييس بلاغية أو مقاييس النقد الشاعري الحديث، فإن الفهم الكامل «للصورة» ووظيفتها في الكتابة الروائية لا يتم إلا في ارتباط مع فهم نوعية الجنس الروائي، واختلافه مع الأجناس الأخرى المجاورة أو المفارقة له.
في كتاب «وظيفة الصورة في الرواية ـ النظرية والممارسة» الصادر عن دار «كنوز المعرفة للنشر والتوزيع» في عمّان، يؤكد المؤلف الزكري أن الكتابة عن الصورة الروائية يجب أن يسبقه وعي نظري بمسألة الأجناس الأدبية. لذلك ارتأى بدء دراسته بمقاربة مفهوم الصورة مع ربطه بهذه المسألة، قبل المرور إلى الصورة داخل البناء الروائي.
يلفت الكاتب الانتباه إلى «المصادفة العجيبة» والمتمثلة في أن أول رواية عربية ـ بتقدير الباحثين ـ حملت عنوان «زينب، مناظر وأخلاق ريفية»، حيث قدم لها مؤلفها محمد حسين هيكل ذاكرا أنه قصّ «فيها صورا لمناظر ريف مصر وأخلاق أهله»؛ فكأن هذا الكاتب كان يصبو إلى تقريب قرائه من مناخ خاص وأجواء معينة، من خلال انسكابها في صورة مؤثرة.
ويشير الزكري إلى أن جمالية الرواية وسيميائيتها تتهيأ على عمق مختلف التمثيلات التي تخترق الفضاء الاجتماعي المُوَسَّطِ من خلال الرمزي والمتخيل والتصويري؛ ملاحظا أن «الصورة» تساهم ـ إلى حد كبير ـ في تحقيق النمذجة الجمالية للرواية، باعتبارها عنصرا تكوينيا (بنائيا) وأسلوبيا، بما تضفيه على العمل الروائي من أبعاد، لم تكن لتتحقق لولاها. من هنا، تكون الصورة الروائية وليدة طازجة من بوتقة الأحاسيس، وتلي عملية الوقوف على مصدر الصورة الروائية وتكونها عملية أخرى تنطوي على أبعاد متوهجة، وتتمثل في «البحث» عن حد للصورة الروائية، وعن تخومها الناتئة منها والخفية، مع ما يطرحه مثل هذا البحث من صعوبة نابعة من قلة الدراسات المهتمة بالموضوع ومحدوديتها.
ويستطرد الكاتب قائلا: إن الصورة، ولكونها علامة دالة داخل النسيج الروائي، تقيم علاقات متعددة مع مجمل عناصر الكتابة الروائية، فهي إلى جانب كونها تسم كل ما هو موجود بطابع التميز، تحدد نوعية الأشياء من حيث دلالتها المرجعية، المحسوسة منها أو المجردة، التي تحيل إلى واقع عيني، أو التي تنحو نحو أقاليم لامرئية، كما تحدد نوعية التفكير من حيث تكوينه النفسي والاجتماعي. من هذا المنظور، فإن الصورة الروائية هي من بين العناصر الحاسمة في تشكيل وإبراز التركيبة النفسية والخلفية المعرفية للروائي والرواية في آن.
إذن، فهي عامل من عوامل إغناء الشبكة الإشارية المشكلة للحمة النص الروائي، ومن ثم تشرئب إلى تكثيف المستوى الدلالي بالشحنات التي تتدفق في أفق انتظار القارئ، لا باختراق المتن التصويري للدلالة المعيارية للغة فقط، بل بحمولة النص المتوهجة. إن الصورة خادمة لمعنى السرد الذي تؤسسه وتستقطره وتحكم انتشاره الدلالي، كما أنها جزء من ذلك المعنى.

وظائف متعددة

بعد ذلك، يستعرض المؤلف وظائف الصورة الروائية على النحو التالي: هناك نوع من الصور يكتسي أهمية بالغة، وهو الذي يتخذ صبغة رمز، أو يكون على الأصح رمزا.
وتتبدى وظيفة الصورة الروائية أيضا، في استراتجية بزوغها وانبثاقها، ذلك أن دورها الحاسم يتجلى في بعض المنعطفات التي تحفرها، والتي توجّه بموجبها مصير الشخصيات والأحداث. إن وظيفة الصورة ها هنا، يرتبط ارتباطا حميما بالمقام ـ حسب لغة القدماء ـ فهي إذ تنبجس في لحظات معينة، يكون لذلك الانبجاس بعد خطير في البنية الروائية. والمستوى الثالث من وظائف الصورة ـ حسب أحد الباحثين الغربيين ـ تبرزه أحكام القيمة. إن وظيفة الصورة الروائية في هذا المستوى تبرز لاعتبارها تضمينا وتلميحا. وقد تؤشر الحركة العامة للصور عن مجموعة من الأفكار الفلسفية أو التأملات الذاتية لكاتب معين، إذ تستبطن الصور المنسربة في تضاعيف أعماله رؤية عميقة للواقع، مع الخلفية الفلسفية المتضمنة بشكل أو آخر. كما أن وظيفة الصورة تتمثل في مساعدة الروائي على احتضان بعض التجارب وصياغتها، والتي ليس بالإمكان التطرق إليها لولا الصورة، بل لم يكن ليتصورها بصيغة أخرى غير تلك التي تمنحها الصورة.
وعندما نقف على تشكيل لغوي، أو «كاريكاتير» لغوي لشخص ما، نكون لحظتئذ إزاء مستوى آخر من المستويات الوظيفية للصورة الروائية. إن الوظيفة في هذا السياق، تتعالق مع التشخيص أو التجسيد الذي يضفيه الكاتب على بعض شخصياته، أو الذي تضفيه الشخصيات على بعضها بعضا. وتتضاعف وظيفة الصورة الروائية، حين نكون حيال كتابة تنحو إلى الشاعرية، حيث الصور الرقيقة والشعرية مفخمة جدا. كما أن وظيفة الصورة تغمر المسار الروائي، من خلال الإضاءة الشاملة للمكونات الروائية.

«بدر زمانه»

بعد ذلك، ينتقل المؤلف إلى مقاربة رواية «بدر زمانه» للمغربي مبارك ربيع، مركزا بالدرجة الأولى على الأولويات التي تشكل صورة ما في السياق الروائي، وعلى كيفية اندغامها الدقيق؛ مع محاولة الكشف عن وظائفها وعلاقتها الرمزية والدلالية بالنسبة للشخصيات والمكان في الآن نفسه، مع إعطاء الأولوية للشخصيات ولتمظهرها البارز في الرواية. عِلما بأن الدلالة العامة للخطاب الروائي في «بدر زمانه» تكمن في كونها تصويرا ازدواجيا للحياة الإنسانية، تصويرا واقعيا وآخر خياليا.
ويستخلص الزكري أن الصورة الروائية تتأسس بتشاكل وتعالق الإمكانات البلاغية المتعددة وبتضافر الرمز والوصف، وبانصهار كل ذلك مع طرائق الكتابة الروائية وتقنياتها من استباق واسترجاع وتراكم وامتداد وتجاور الحكي… كما أن الصور تتوزع إلى أنماط متمايزة، من بلاغية ونفسية وسريالية وواقعية وتعبيرية؛ وتخضع عملية تصنيف الصور لمقتضيات النص الروائي، أي تساوقا مع ما يمنحه هذا النص وما يتضمنه. وأخيرا، فإن وظائف الصور الروائية تؤكد على ضرورة اعتبارها عنصرا تكوينيا في البناء الروائي. وهذه الوظائف تثري الكتابة الروائية وتخصبها دلاليا وبنائيا.

ذات صلة